فصل: ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبد الله وقتله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبد الله وقتله:

ثم إن المنصور أحضر ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد. فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين. ثم قال: فأين قول ابن هرثمة:
نزور أمرأً لا يمحض القوم سرّه ** ولا ينتجي الأدنين عمّا يحاول

إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى ** وإن قال إنّي فاعلٌ فهو فاعل

فقال المنصور: امض أيها الرجل، فوالله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا. فسار وسير معه الجنود. وقال المنصور لما سار عيسى: لا أبالي أيهما قتل صاحبه. وبعث معه محمد بن أبي العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدي، وابن قحطبة، وهزارمرد وغيرهم، وقال له حين ودعه: يا عيسى إني أبعثك إلى ما بين هذين، وأشار إلى جنبيه، فإن ظفرت بالرجل فأعمد سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه فإنهم يعرفون مذابه، ومن لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله.
وكان جعفر الصادق تغيب عنه فقبض ماله، فلما قدم المنصور المدينة قال له جعفر في معنى ماله، فقال: قبضه مهديكم.
فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق حرير، منهم: عبد العزيز بن المطلب المخزومي، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه، فخرج هو وعمر بن محمد بن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن عقيل، وأبو عيسى.
ولما بلغ محمداً قرب عيسى من المدينة استشار أصحابه في الخروج من المدينة أو المقام بها، فأشار بعضهم بالخروج عنها، وأشار بعضهم بالمقام بها لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر بن أنس، رئيس سليم: يا أمير المؤمنين نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خندق خندقه لما الله أعلم به، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة، وإن الذين تخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم. فقال أحد بني شجاع: خندق، خندق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاقتد به، وتريد أنت أن تدع أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرأيك! قال: إنه والله يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شيء أحب من مناجزتهم. فقال محمد: إنما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يردني أحد عنه فلست بتاركه. وأمر به فحفر، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق الذي حفره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأحزاب.
وسار عيسى حتى نزل الأعوص، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون، وخطبهم محمد بن عبد الله فقال لهم: إن عدو الله عدوكم قد نزل الأعوص، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار، ألا وإنا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوكم عدد كثير والنصر من الله والأمر بيده، وإنه قد بدا لي أن آذن لكم، فمن أحب منكم أن يقيم أقام، ومن أحب أن يظعن ظعن.
فخرج عالم كثير، وخرج ناسٌ من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، وبقي محمد في شرذمة يسيرة، فأمر أبا القلمس برد من قدر عليه، فأعجزه كثير منهم، فتركهم.
وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة، فقال ابن الأصم: إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة، وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكركم. فتأخروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف، وهي على أربعة أميال من المدينة، وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل. وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة، فأقاموا بها، وقال: أخاف أن ينهزم محمد فيأتي مكة فيرده هؤلاء؛ فأقاموا بها حتى قتل.
وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور قد آمنه وأهله، فأعاد الجواب: يا هذا إن لك برسول الله، صلى الله عليه وسلم، قرابة قريبة، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله فتكون شر قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك. فلما بلغته الرسالة قال عيسى: ليس بيننا وبينه إلا القتال. وقال محمد للرسول: علام تقتلونني وإنما رجل فر من أن يقتل؟ قال: القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليٌ طلحة والزبير على نثك بيعتهم وكيد ملكه. فلما سمع المنصور قوله قال: ما سرني أنه قال غير ذلك.
ونزل عيسى بالجرف لإثنتي عشرة من رمضان يوم السبت، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الاثنين فوقف على سلع فنظر إلى المدينة ومن فيها فنادى: يا أهل المدينة إن الله حرم دماء بعضنا على بعض فهلموا إلى الأمان! فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبنا فإما لنا وإما له! فشتموه. وانصرف من يومه، وعاد من الغد وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة وأخلى ناحية مسجد أبي الجراح، وهو على بطحان، فإنه أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم، وبرز محمد في أصحابه، وكانت رايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وكان شعاره: أحد أحد. فبرز أبو القلمس، وهو من أصحاب محمد، فبرز إليه أخو أسد واقتتلوا طويلاً، فقتله أبو القلمس، وبرز إليه آخر فقتله، فقال حين ضربه: خذها وأنا ابن الفاروق. فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيراً من ألف فاروق.
وقاتل محمد بن عبد الله يومئذ قتالاً عظيماً فقتل بيده سبعين رجلاً، وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمد، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق ونصب عليه أبواباً وعبر هو وأصحابه عليها فجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه أشد قتال من بكرة إلى العصر، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقائب وغيرها في الخندق وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانصرف محمد قبل الظهر فاغتسل وتحنط ثم رجع، فقال له عبد الله بن جعفر: بأبي أنت وأمي؛ والله ما لك بما ترى طاقة! فلو أتيت الحسن ابن معاوية بمكة فإن جل أصحابك. فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت مني في سعة فاذهب حيث شئت.
فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه، وتفرق عنه جل أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً، فقال لبعض أصحابه: نحن اليوم بعدة أهل بدر. وصلى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده إلا ذهبت إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين، ولكن اذهب أنت حيث شئت. فقال ابن خضير: واين المذهب عنك؟ ثم مضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعه، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان وقتل ابن مسلم بن عقبة المري ومضى إلى محمد بن القسري وهو محبوس ليقتله، فعلم به فردم الأبواب دونه، فلم يقدر عليه ورجع إلى محمد فقاتل بين يديه حتى قتل.
وتقدم حميد بن قحطبة وتقدم محمد، فلما صار ينظر مسيل سلع عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابهم ولم يبق أحد إلا كسر جفن سيفه، فقال لهم محمد: قد بايعتموني ولست بارحاً حتى أقتل، فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له.
واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى مرتين وثلاثاً، وقال يزيد بن معاوية بن عباس بن جعفر: ويل امه فتحاً لو كان له رجال! فصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع وانحدروا منه إلى المدينة، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بخمار أسود فرفع على منارة محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب محمد: دخلت المدينة، فهربوا، فقال يزيد: لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤتى إلا منه، يعني سلعاً.
وفتح بنو أبو عمرو الغفاريون طريقاً في بني غفار لأصحاب عيسى ودخلوا منه أيضاً وجاؤوا من وراء أصحاب محمد، ونادى محمد حميد بن قحطبة: ابرز إلي فأنا محمد بن عبد الله. فقال حميد: قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك.
وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشح به على الموت، وابن خضير يحمل على الناس راجلاً لا يصغي إلى أمانه وهو يأخذه بين يديه، فضربه رجل من أصحاب عيسى على أليته فخلها، فرجع إلى أصحابه فشدها بثوب ثم عاد إلى القتال، فضربه إنسان على عينه فغاص السيف وسقط، فابتدروه فقتلوه واحتزوا رأسه وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه. فلما قتل تقدم محمد فقاتل على جيفته، فجعل يهذ الناس هذاً، وكان أشبه الناس بقتال حمزة. ولم يزل يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى فبرك لركبته وجعل يذب عن نفسه ويقول: ويحكم ابن نبيكم مجرح مظلوم! فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل إليه فاحتز رأسه وأتى به عيسى، وهو لا يعرف من كثرة الدماء.
وقيل: إن عيسى اتهم بن قحطبة، وكان في الخيل، فقال له: ما أراك تبالغ. فقال له: أتتهمني؟ فوالله لأضربن محمداً حين أراه بالسيف أو أقتل دونه. قال: فمر به وهو مقتول فضربه ليبر يمينه.
وقيل: بل رمي بسهم وهو يقاتل فوقف إلى جدار فتحاماه الناس، فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره، وهو ذو الفقار سيف علي، وقيل: بل أعطاه رجلاً من التجار كان معه وله عليه أربعمائة دينار وقال: خذه فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك؛ فلم يزل عنده حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة فأخبر به، فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدي، ثم صار إلى الهادي، فجربه على كلب فانقطع السيف، وقيل: بل بقي إلى أيام الرشيد، وكان يتقلده وكان به ثماني عشرة فقارة.
ولما أتي عيسى برأس محمد قال لأصحابه: ما تقولون فيه؟ فوقعوا فيه، فقال بعضهم: كذبتم، ما لهذا قاتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصا المسلمين وإن كان لصواماً قواماً! فسكتوا. فأرسل عيسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأرسل مع رؤوس بني شجاع، فأمر المنصور فطيف برأس محمد في الكوفة وسيره إلى الآفاق؛ ولما رأى المنصور رؤوس بني شجاع قال: هكذا فليكن الناس، طلبت محمداً فاشتمل عليه هؤلاء ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه حتى قتلوا.
وكان قتل محمد وأصحابه يوم الاثنينبعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان. وكان المنصور قد بلغه أن عيسى قد هزم فقال: كلا، أين لعب أصحابنا وصبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟ ما أنى لذلك بعد! ثم بلغه أن محمداً هرب فقال: كلا، إنا أهل بيت لا نفر. فجاءته بعد ذلك الرؤوس.
ولما وصل رأس محمد إلى المنصور كان الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عنده، فلما رأى الرأس عظيم عليه فتجلد خوفاً من المنصور، وقال لنقيب المنصور: أهو؟ قال: هو فلذهم، وقال: لوددت أنا الركانة إلى طاعته وأنه لم يكن فعل ولا قال وإلا فأم موسى طالق، وكانت غاية أيمانه، ولكنه أراد قتله، وكانت نفسه أكرم علينا من نفسه، فبصق بعض الغلمان في وجهه، فأمر المنصور بأنفه فكسر عقوبة له.
ولما ورد الخبر بقتل محمد على أخيه إبراهيم بالبصرة كان يوم العيد، فخرج فصلى بالناس ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه، وتمثل على المنبر:
يا با المنازل يا خير الفوارس من ** يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم أنّي لو خشيتهم ** وأوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلم أخي أبداً ** حتّى نموت جميعاً أو نعيش معا

ولما قتل محمد أرسل عيسى ألويةً فنصبت في مواضع بالمدينة ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن. وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفين ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها، فاحتمله قومٌ من الليل فواروه سراً وبقي الآخرون ثلاثاً، فأمر بهم عيسى، فألقوا على مقابر اليهود، ثم ألقوا بعد ذلك في خندق في أصل ذباب، فأرسلت زينب بنت عبد الله أخت محمد وابنة فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه، فلو أذنتم لنا في دفنه؟ فأذن لها، فدفن بالبقيع.
وقطع المنصور الميرة في البحر إلى المدينة ثم أذن فيها المهدي.

.ذكر بعض المشهورين ممن كان معه:

وكان فيمن معه من بني هاشم أخوه موسى بن عبد الله، وحسين وعلي ابنا زيد بن علي بن الحسين بن علي. ولما بلغ المنصور ابني زيد أعانا محمداً عليه قال: عجباً لهما قد خرجا علي وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه، وأحرقناه كما أحرقه! وكان معه حمزة بن عبد الله بن محمد بن الحسين وعلي وزيد ابنا الحسن ابن زيد بن علي بن أي طالب، وكان أبوهما مع المنصور، والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر، وكان أبوه مع المنصور، ومن غيرهم: محمد بن عبد الله بن عمرو ابن سعيد بن العباس، ومحمد بن عجلان، وعبد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم، أخذ أسيراً فأتي به المنصور، فقال له: أنت الخارج علي؟ قال: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد.
وكان معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، وعبد الواحد إبن أبي عون مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع، وإبراهيم وإسحاق وربيعة وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقوب وعثمان وعبد العزيز بنو عبد الله بن عطاء، وعيسى ابن خضير، وعثمان بن خضير، وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، هرب بعد قتل محمد فأتى البصرة، فأخذ منها وأتي به المنصور، فقال له: هيه يا عثمان! أنت الخارج علي مع محمد؟ قال: بايعته أنا وأنت بمكة فوفيت ببيعتي وغدرت بيعتك! قال: يا ابن اللخناء! قال: ذاك من قامت عنه الإماء! يعني المنصور، فأمر به فقتل.
وكان مع محمد عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخذ أسيراً، فأطلقه المنصور؛ وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، وعلي بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير، وهشام بن عمارة بن الوليد بن عدي بن الخيار، وعبد الله ابن يزيد بن هرمز، وغيرهم ممن تقدم ذكرهم.

.ذكر صفة محمد والأخبار بقتله:

كان محمد أسمر شديد السمرة، وكان المنصور يسميه محمماً، وكان سميناً شجاعاً كثير الصوم والصلاة، شديد القوة، وكان يخطب على المنبر، فاعترض في حلقه بلغم فتنحنح فذهب ثم عاد فتنحنح فذهب ثم عاد فتنحنح فنظر فلم ير موضعاً يبصق فيه فرمى بنخامته في سقف المسجد فألصقها فيه.
وسئل جعفر الصادق عن أمر محمد فقال: فتنة يقتل فيها محمد ويقتل أخوه لأبيه وأمه بالعراق وحوافر فرسه في ماء.
فلما قتل محمد قبض عيسى أموال بني الحسن كلها وأموال جعفر، فلقي جعفرٌ المنصور فقال له: رد علي قطيعتي من أبي زياد. قال: إياي تكلم بهذا؟ والله لأزهقن نفسك! قال: فلا تعجل علي، قد بلغت ثلاثاً وستين سنة وفيها مات أبي وجدي وعلي بن أبي طالب، وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء، وإن بقيت بعدك إن ربت الذي يقوم بعدك. فرق له المنصور ولم يرد عليه قطيعته، فردها المهدي على ولده.
وقال محمد لعبد الله بن عامر الأسلمي: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت. قال: فوالله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزنا إلى عيسى وأصحابه فظفروا وقتلوا محمداً ورأيت دمه عند أحجار الزيت.
وكان قتله يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة.
وكان يلقب المهدي والنفس الزكية.
ومما رثي به هو وأخوه قول عبد الله بن مصعب بن ثابت:
يا صاحبيّ دعا الملامة واعلما ** أن لست في هذا بألوم منكما

وقفا بقبر للنبيّ فسلّما ** لا بأس أن تقفا به وتسلّما

قبر تضمّن خير أهل زمانه ** حسباً وطيب سجيّةٍ وتكرّما

رجلٌ نفى بالعدل جور بلادنا ** وعفا عظيمات الأمور وأنعما

لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ** عنه ولم يفتح بفاحشةٍ فما

لو أعظم الحدثان شيئاً قبله ** بعد النبيّ به لكنت المعظّما

أو كان أمتع بالسلامة قبله ** أحداً لكان قصاره أن يسلما

ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة ** فتصرّمت أيّامه فتصرّما

بطلاً يخوض بنفسه غمراته ** لا طائشاً رعشاَ ولا مستسلما

حتّى مضت فيه السيوف وربّما ** كانت حتوفهم السيوف وربّما

أضحى بنو حسنٍ أبيح حريمهم ** فينا وأصبح نهبهم متقسّما

ونساؤهم في دورهنّ نوائح ** سجع الحمام إذا الحمام ترنّما

يتوسلون بقتله ويرونه ** شرفاً لهم عند الإمام ومغنما

والله لو شهد النبيّ محمّدٌ ** صلّى الاله على النبيّ وسلّما

إشراع أمّته الأسنّة لابنه ** حتّى تقطّر من ظباتهم دما

حقّاً لأيقن أنّهم قد ضيّعوا ** تلك القرابة واستحلّوا المحرّما

ولما قتل محمد قام عيسى بالمدينة أياماً ثم سار عنها صبح تسع عشرة خلت من رمضان يريد مكة معتمراً، واستخلف على المدينة كثير بن حصين، فأقام بها شهراً ثم استعمل المنصور عليه عبد الله بن الربيع الحارثي.

.ذكر وثوب السودان بالمدينة:

وفيها ثار السودان بالمدينة على عاملها عبد الله بن الربيع الحارثي فهرب منهم.
وسبن ذلك أن المنصور استعمل عبد الله بن الربيع على المدينة وقدمها لخمس بقين من شوال، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم، فشكا ذلك التجار إلى ابن الربيع، فانتهرهم وشتمهم، فتزايد طمع الجند فيهم فعدوا على رجل صيرفي فنازعوه كيسه، فاستعان بالناس فخلص ماله منهم، وشكا أهل المدينة ذلك منهم، فلم ينكره ابن الربيع، ثم جاء رجلٌ من الجند فاشترى من جزار لحماً يوم جمعة ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف، فضربه الجزار بشفرة في خاصرته فقتله، واجتمع الجزارون وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد، ونفخوا في بوق لهم، فسمعه السودان من العالية والسافلة فأقبلوا واجتمعوا، وكان رؤساؤهم ثلاثة نفر: وثيق، ويعقل، وزمعة، ولم يزالوا على ذلك من قتل الجند حتى أمسوا.
فلما كان الغد قصدوا ابن الربيع فهرب منهم وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به، فانتهبوا طعاماً للمنصور وزيتاً وقسباً فباعوا حمل الدقيق بدرهمين، وراوية الزيت بأربعة دراهم.
وسار سليمان بن مليح ذلك اليوم إلى المنصور فأخبره.
وكان أبو بكر بن أبي سبرة في الحبس قد أخذ مع محمد بن عبد الله فضرب وحبس مقيداً، فلما كان من السودان ما كان خرج في حديده من الحبس فأتى المسجد فأرسل إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما فأحضرهم عنده فقال: أنشدكم الله وهذه البلية التي وقعت! فوالله إن ثبتت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لهلاك البلد وأهله والعبيد في السوق بأجمعهم، فاذهبوا إليهم فكلموهم في الرجعة والعود إلى رأيكم فإنهم أخرجتهم الحمية. فذهبوا إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحباً بموالينا، والله ما قمنا إلا أنفةً مما عمل بكم، فأمرنا إليكم؛ فأقبلوا بهم إلى المسجد، فخطبهم ابن أبي سبرة وحثهم على الطاعة، فتراجعوا، ولم يصل الناس يومئذ جمعة؛ فلما كان وقت العشاء الآخرة لم يجب المؤذن أحد إلى الصلاة بهم، فقدم الأصبغ ابن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، فلما وقف للصلاة واستوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته: أنا فلان بن فلان أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين، يقول ذلك مرتين وثلاثاً، ثم تقدم فصلى بهم، فلما كان الغد قال لهم ابن أبي سبرة: إنكم قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم ونهبتم طعام أمير المؤمنين، فلا يبقين عند أحد منه شيء إلا رده؛ فردوه؛ ورجع ابن الربيع من بطن نخل فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.

.ذكر بناء مدينة بغداد:

فيها ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد.
وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكانها لذلك ولجوار أهل الكوفة أيضاً، فإنه كان لا يأمن أهلها على نفسه، وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد له موضعاً يسكنه هو وجنده، فانحدر إلى جرجرايا، ثم أصعد إلى الموصل وسار نحو الجبل في طلب منزل يبني به. وكان قد تخلف بعض جنده بالمدائن لرمد لحقه، فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة المنصور، فأخبره، فقال: إنا نجد في كتاب عندنا أن رجلاً يدعى مقلاصاً يبني مدينة بين دجلة والصلاة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتقٌ من الحجاز فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق، ثم أتاه فتقٌ من البصرة أعظم منه فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر عمراً طويلاً ويبقى الملك في عقبه.
فقدم ذلك الجندي إلى عسكر المنصور وهو بنواحي الجبل فأخبره الخبر، فرجع وقال: إني أنا والله كنت أدعى مقلاصاً وأنا صبي ثم زال عني، وسار حتى نزل الدير الذي حذاء قصره المعروف بالخلد، ودعا بصاحب الدير وبالبطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرم وصاحب بستان النفس وصاحب العتيقة فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام، فأخبره كل منهم بما عنده، ووقع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره.
فقال: يا أمير المؤمنين سألتني عن هذه الأمكنة وما تختار منها، وإني أرى أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغربي طسوجين وهما بقطريل وبادوريا، وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فيكون بين نخل وقرب ماء، وإن أجدب طسوجٌ وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من الشام والرقة، والغرب في طوائف مصر، وتجيئك الميرة من الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل وغيرها في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب، فأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت بالقنطرة لم يصل إليك، ودجلة والفرات والصراة خنادق هذه المدينة، وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل. فازداد المنصور عزماً على النزول في ذلك الموضع.
وقيل: إن المنصور لما أراد أن يبني مدينته بغداد رأى راهباً فناداه، فأجابه، فقال: هل تجدون في كتبكم أنه يبني ها هنا مدينة؟ قال: نعم يبنيها مقلاص. قال: فأنا كنت أدعى مقلاصاً في حداثتي. قال: فإذاً أنت صاحبها.
فابتدأ المنصور بعملها سنة خمس وأربعين، وكتب إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في معنى إنفاذ الصناع والفعلة، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة، وأبو حنيفة، وأمر فخطت المدينة وحفر الأساس وضرب اللبن وطبخ الآجر، فكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطها بالرماد، فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار، ففعلوا، فنظر إليها وهي تشتعل ففهمها وعرف رسمها وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم، ووكل بها أربعة من القواد، كل قائد بربع، ووكل أبا حنيفة بعدد الآجر واللبن، وكان قبل ذلك قد أراد أبا حنيفة أن يتولى القضاء والمظالم، فلم يجب، فحلف المنصور أنه لا يقلع عنه أو يعمل له. فأجابه إلى أن ينظر في عمارة بغداد ويعد اللبن والآجر بالقصب، وهو أول من فعل ذلك.
وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعاً، ومن أعلاه عشرين ذراعاً، وجعل في البناء القصب والخشب، ووضع بيده أول لبنة، وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
فلما بلغ السور مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد بن عبد الله، فقطع البناء ثم أقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم ثم رجع إلى بغداد فأتم وأقطع فيها القطائع لأصحابه.
وكان المنصور قد أعد جميع ما يحتاج إليه من بناء المدينة من خشب وساج وغير ذلك، واستخلف حين يشخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعد أسلم مولاه، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور، فأحرق ما كان خلفه عليه المنصور، فبلغ المنصور ذلك فكتب إليه يلومه، فكتب إليه أسلم يخبره أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئاً.
وسنذكر كيفية بنائها في سنة ست وأربعين إن شاء الله.